فصل: (سورة طه: الآيات 7- 8):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال أبو بكر محمد بن عمر الورّاق: لعلّ ها هنا من الله واجب، ولقد تذّكر فرعون حيث لم تنفعه الذكرى والخشية، وذلك قوله حين الجمَهُ الغرقُ في البحر {آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} [يونس: 90].
سمعت أبا القاسم الحسنن بن محمد بن حبيب يقول: سمعت أبي يقول سمعت علىّ بن محمد الوراق يقول: سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول وقرأ هذه الآية: هذا رفقك بمن يقول: أنا الإله، فكيف رفقك بمن يقول: أنت الإله؟
قال أبو القاسم الحسين فبنيت عليه ألفاظًا اقتديت به فيها فقلت: هذا رفقك بمن ينافيك فكيف رفقك بمن يصافيك؟
هذا رفقك بمن يعاديك فكيف رفقك بمن يواليك؟
هذا رفقك بمن يسبّك فكيف رفقك بمن يحبّك؟
هذا رفقك بمن يقول لك نِدًّا فكيف رفقك بمن يقول فردًا؟
هذا رفقك بمن ضلّ فكيف رفقك بمن ذل هذا رفقك بمن اقترف فكيف رفقك بمن اعترف؟
هذا رفقك بمن أصرَّ فكيف رفقك بمن أقرَّ؟
هذا رفقك بمن استكبر فكيف رفقك بمن استغفر؟
{قَالاَ} يعني موسى وهارون {رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ}. قال ابن عباس: يعجّل بالقتل والعقوبة، وقال الضحّاك: تجاوز الحدّ، وقيل: يغلبنا {أَوْ أَن يطغى} يتكبرّ ويستعصي علينا.
{قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ} بالدفع عنكما {أَسْمَعُ} قولكما وقوله: {وأرى} فعله وفعلكما {فَأْتِيَاهُ فقولا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ} أي ولا تتعبهم في العمل، وكانت بنو إسرائيل عند آل فرعون في عذاب شديد يقتل ابناءهم ويستخدم نساءهم ويكلفهم من العمل واللبن والطين وبناء المدائن ما لا يقدرون عليه.
قال موسى {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ} قال فرعون: وما هي؟ قال: فأدخل يده في جيب قميصه ثمَّ أخرجها فإذا هي بيضاء لها شعاع كشعاع الشمس، غلبت نور الشمس، فعجب منها ولم يُره العصا إلاّ بعد ذلك يوم الزينة.
{والسلام على مَنِ اتبع الهدى} يعني من أسلم {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ} أنبياء الله {وتولى} أعرض عن الإيمان، ورأيت في بعض التفاسير أنَّ هذه أرجى آية للموحّدين في القرآن.
{قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى} يعني يا موسى وهارون فذكر موسى دون هارون لرؤوس الآي.
{قَالَ رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ} قال الحسين وقتادة: أعطى كلّ شئ صلاحه وهداه لما يصلحه.
وقال مجاهد: لم يجعل الإنسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان، ولكن خلق كلّ شي فقدّره تقديرًا.
وقال عطيّة: أعطى كلّ شئ خلقه يعني صورته.
وقال الضحّاك: أعطى كلّ شيء خلقه، يعني اليد للبطش والرجل للمشي واللسان للنطق والعين للبصر والأُذن للسمع.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا عبد الرَّحْمن بن محمد الزهري قال: حدَّثنا أحمد ابن سعيد قال: حدَّثنا سعيد بن سليمان عن إسماعيل بن زكريا عن إسماعيل بن أبي صالح، أعطى كل شي خلقه {ثُمَّ هدى} قال: هداه لمعيشته.
وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: {أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ} يعني شكله، للإنسان الزوجة وللبعير الناقة وللفرس الرمكة وللحمار الأتان ثمَّ هدى أي عرَّف وعلّم وألهم كيف يأتي الذكر الأُنثى في النكاح. وقرأ نصير خلَقه بفتح اللام على الفعل.
{قَالَ} فرعون {فَمَا بَالُ القرون الأولى} وإنَما قال هذا فرعون لموسى حين قال موسى: {إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ الأحزاب مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ والذين مِن بَعْدِهِمْ} [غافر: 30-31]، فقال فرعون حينئذ له: فما بال القرون الاولى التي ذكرت؟ فقال موسى {عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} يعني اللوح المحفوظ، وإنّما ردّ موسى علم ذلك إلى الله سبحانه لأنّه لم يعلم ذلك، وإنَما نزلت التوراة عليه بعد هلاك فرعون وقومه {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي} أي لا يخطئ {وَلاَ يَنسَى} فيتذكّر، وقال مجاهد: هما شيء واحد.
{الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْدًا} قرأه أهل الكوفة بغير ألف أي فرشًا، وقرأ الباقون مهادًا أي فراشًا واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مِهَادًا} [النبأ: 6] ولم يختلفوا فيه أنّه بالألف.
{وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} أي أدخل وبيّن وطرّق لكم فيها طرقًا. {وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا} أصنافًا {مِّن نَّبَاتٍ شتى} مختلف الألوان والطعوم والمنافع من بين أبيض وأحمر وأخضر وأصفر، ووهب كلّ صنف زوجًا، ومنها للدوابّ ومنها للناس ثمَّ قال: {كُلُواْ وارعوا} أي ارتعوا {أَنْعَامَكُمْ} يقول العرب: رعيتُ الغنم فرَعَتْ لازم ومتعدّ.
{إِنَّ فِي ذلك} الذي ذكرت {لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى} أي لذوي العقول، واحدها نُهية، سُمّيت بذلك لأنّها تنهى صاحبها عن القبائح والفضائح وارتكاب المحظورات والمحرّمات.
وقال الضحّاك: {لأُوْلِي النهى} يعني الذين ينتهون عمّا حُرَّم عليهم.
وقال قتادة: لذوي الورع، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: لذوي التقى.
{مِنْهَا} أي من الأرض {خَلَقْنَاكُمْ} يعني أباكم آدم. وقال عطاء الخراساني: إن الملك ينطلق فيأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه فيذرّهُ على النطفة، فيخلق من التراب، ومن النطفة فذلك قوله سبحانه {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ}.
{وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} أي عند الموت والدفن، قال عليّ: إن المؤمن إذا قبض الملك روحه انتهى به إلى السماء، وقال: يا ربِّ عبدك فلان قبضنا نفسه فيقول: ارجعوا فإنّي وعدتهُ: منها خلقناكم وفيها نعيدكم فإنّه يسمع خفق نعالهم إذا ولّوا مدبرين.
{وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى} مرَّة أُخرى بعد الموت عند البعث. اهـ.

.قال الزمخشري:

سورة طه مكية إلا آيتي 130و 131 فمدنيتان، وهي 135 آية، نزلت بعد مريم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.

.[سورة طه: الآيات 1- 4]:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
{طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4)}.
طه أبو عمرو فخم الطاء لاستعلائها. وأمال الهاء وفخمها ابن كثير وابن عامر على الأصل، والباقون أمالوهما. وعن الحسن رضي اللّه عنه: طه، وفسر بأنه أمر بالوطء، وأن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه فأمر بأن يطأ الأرض بقدميه معا، وأن الأصل طأ، فقلبت همزته هاء، أو قلبت ألفا في يطأ فيمن قال:
لا هناك المرتع

ثم بنى عليه الأمر، والهاء للسكت. ويجوز أن يكتفى بشطرى الاسمين وهما الدالان بلفظهما على المسميين، واللّه أعلم بصحة ما يقال: إن طاها في لغة عك في معنى يا رجل، ولعل عكا تصرفوا في يا هذا كأنهم في لغتهم قالبون الياء طاء، فقالوا في يا طا واختصروا هذا فاقتصروا على ها، وأثر الصنعة ظاهر لا يخفى في البيت المستشهد به:
إنّ السّفاهة طاها في خلائقكم ** لا قدّس اللّه أخلاق الملاعين

والأقوال الثلاثة في الفواتح: أعنى التي قدمتها في أول الكاشف عن حقائق التنزيل، هي التي يعوّل عليها الألباء المتقنون ما أَنْزَلْنا إن جعلت طه تعديدا لأسماء الحروف على الوجه السابق ذكره فهو ابتداء كلام. وإن جعلتها اسما للسورة احتملت أن تكون خبرا عنها وهي في موضع المبتدأ، والْقُرْآنَ ظاهر أوقع موقع الضمير لأنها قرآن، وأن يكون جوابا لها وهي قسم. وقرئ: ما نزل عليك القرآن لِتَشْقى لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا كقوله تعالى فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ والشقاء يجيء في معنى التعب. ومنه المثل: أشقى من رائض مهر، أي ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر، ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة، بعد أن لم تفرط في أداء الرسالة والموعظة الحسنة. وقيل: إن أبا جهل والنضر بن الحرث قالا له: إنك شقى لأنك تركت دين آبائك، فأريد ردّ ذلك بأن دين الإسلام وهذا القرآن هو السلم إلى نيل كل فوز، والسبب في درك كل سعادة، وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها. وروى أنه عليه الصلاة والسلام صلى بالليل حتى اسمعدت قدماه، فقال له جبريل عليه السلام: أبق على نفسك فإن لها عليك حقا. أي: ما أنزلناه لتنهك نفسك بالعبادة وتذيقها المشقة الفادحة، وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة، وكل واحد من لِتَشْقى وتَذْكِرَةً علة للفعل، إلا أن الأول وجب مجيئه مع اللام لأنه ليس لفاعل الفعل المعلل ففاتته شريطة الانتصاب على المفعولية، والثاني جاز قطع اللام عنه ونصبه لاستجماعه الشرائط. فإن قلت: أما يجوز أن تقول: ما أنزلنا عليك القرآن أن تشقى، كقوله تعالى أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ؟ قلت: بلى ولكنها نصبة طارئة، كالنصبة في وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ وأما النصبة في تذكره فهي كالتي في ضربت زيدا، لأنه أحد المفاعيل الخمسة التي هي أصول وقوانين لغيرها. فإن قلت: هل يجوز أن يكون تَذْكِرَةً بدلا من محل لِتَشْقى؟ قلت: لا، لاختلاف الجنسين، ولكنها نصب على الاستثناء المنقطع الذي إلا فيه بمعنى لكن ويحتمل أن يكون المعنى: إنا أنزلنا عليك القرآن لتحتمل متاعب التبليغ ومقاولة العتاة من أعداء الإسلام ومقاتلتهم وغير ذلك من أنواع المشاق وتكاليف النبوّة، وما أنزلنا عليك هذا المتعب الشاق إلا ليكون تذكرة، وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون تذكرة حالا ومفعولا له لِمَنْ يَخْشى لمن يؤول أمره إلى الخشية، ولمن يعلم اللّه منه أنه يبدل بالكفر إيمانا وبالقسوة خشية. في نصب تَنْزِيلًا وجوه: أن يكون بدلا من تذكرة إذا جعل حالا، لا إذا كان مفعولا له لأن الشيء لا يعلل بنفسه، وأن ينصب بنزل مضمرا، وأن ينصب بأنزلنا، لأن معنى: ما أنزلناه إلا تذكرة: أنزلناه تذكرة، وأن ينصب على المدح والاختصاص وأن ينصب بيخشى مفعولا به، أي: أنزله اللّه تذكرة لمن يخشى تنزيل اللّه، وهو معنى حسن وإعراب بين. وقرىّ: تنزيل، بالرفع على خبر مبتدأ محذوف. ما بعد تَنْزِيلًا إلى قوله لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى تعظيم وتفخيم لشأن المنزل، لنسبته إلى من هذه أفعاله وصفاته. ولا يخلو من أن يكون متعلقه إما تَنْزِيلًا نفسه فيقع صلة له، وإما محذوفا فيقع صفة له. فإن قلت: ما فائدة النقلة من لفظ المتكلم إلى لفظ الغائب؟ قلت: غير واحدة منها عادة الافتنان في الكلام وما يعطيه من الحسن والروعة. ومنها أنّ هذه الصفات إنما تسردت مع لفظ الغيبة. ومنها أنه قال أولا أَنْزَلْنا ففخم بالإسناد إلى ضمير الواحد المطاع.
ثم ثنى بالنسبة إلى المختص بصفات العظمة والتمجيد فضوعفت الفخامة من طريقين: ويجوز أن يكون أَنْزَلْنا حكاية لكلام جبريل والملائكة النازلين معه.
وصف السموات بالعلى: دلالة على عظم قدرة من يخلق مثلها في علوها وبعد مرتقاها.

.[سورة طه: الآيات 5- 6]:

{الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6)}.
قرئ الرَّحْمنُ مجرورا صفة لمن خلق والرفع أحسن، لأنه إما أن يكون رفعا على المدح على تقدير: هو الرحمن. وإما أن يكون مبتدأ مشارا بلامه إلى من خلق. فإن قلت: الجملة التي هي عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ما محلها- إذا جررت الرحمن أو رفعته على المدح؟ قلت: إذا جررت فهي خبر مبتدأ محذوف لا غير وإن رفعت جاز أن تكون كذلك وأن تكون مع الرحمن خبرين للمبتدإ. لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك مما يردف الملك، جعلوه كناية عن الملك فقالوا: استوى فلان على العرش يريدون ملك وإن لم يقعد على السرير البتة، وقالوه أيضا لشهرته في ذلك المعنى ومساواته ملك في مؤدّاه وإن كان أشرح وأبسط وأدل على صورة الأمر.
ونحوه قولك: يد فلان مبسوطة، ويد فلان مغلولة، بمعنى أنه جواد أو بخيل، لا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت، حتى أنّ من لم يبسط يده قط بالنوال أو لم تكن له يد رأسا قيل فيه يده مبسوطة لمساواته عندهم قولهم: هو جواد. ومنه قول اللّه عز وجل وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ أي هو بخيل، بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ أي هو جواد، من غير تصوّر يد ولا غل ولا بسط، والتفسير بالنعمة والتمحل للتثنية من ضيق العطن والمسافرة عن علم البيان مسيرة أعوام وَما تَحْتَ الثَّرى ما تحت سبع الأرضين: عن محمد بن كعب وعن السدى: هو الصخرة التي تحت الأرض السابعة.

.[سورة طه: الآيات 7- 8]:

{وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8)}.
أى يعلم ما أسررته إلى غيرك وأخفى من ذلك، وهو ما أخطرته ببالك، أو ما أسررته في نفسك وَأَخْفى منه وهو ما ستسره فيها. وعن بعضهم: أن أخفى فعل يعنى أنه يعلم أسرار العباد وأخفى عنهم ما يعلمه، هو كقوله تعالى: {يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} وليس بذاك. فإن قلت كيف طابق الجزاء الشرط؟ قلت: معناه وإن تجهر بذكر اللّه من دعاء أو غيره فاعلم أنه غنى عن جهرك، فإما أن يكون نهيا عن الجهر كقوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} وإما تعليما للعباد أنّ الجهر ليس لإسماع اللّه وإنما هو لغرض آخر الْحُسْنى تأنيث الأحسن، وصفت بها الأسماء لأنّ حكمها حكم المؤنث كقولك: الجماعة الحسنى، ومثلها: {مَآرِبُ أُخْرى}، و{مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى}. والذي فضلت به أسماؤه في الحسن سائر الأسماء: دلالتها على معاني التقديس والتمجيد والتعظيم والربوبية، والأفعال التي هي النهاية في الحسن.

.[سورة طه: الآيات 9- 10]:

{وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى نارًا فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10)}.
قفاه بقصة موسى عليه السلام ليتأسى به في تحمل أعباء النبوّة وتكاليف الرسالة والصبر على مقاساة الشدائد، حتى ينال عند اللّه الفوز والمقام المحمود. يجوز أن ينتصب إِذْ ظرفا للحديث، لأنه حدث. أو لمضمر، أي: حين رَأى نارًا كان كيت وكيت. أو مفعولا لا ذكر استأذن موسى شعيبا عليهما السلام في الخروج إلى أمه وخرج بأهله، فولد له في الطريق ابن في ليلة شاتية مظلمة مثلجة، وقد ضلّ الطريق وتفرّقت ماشيته ولا ماء عنده، وقدح فصلد زنده فرأى النار عند ذلك. قيل: كانت ليلة جمعة. {امْكُثُوا} أقيموا في مكانكم. الإيناس: الإبصار البين الذي لا شبهة فيه، ومنه إنسان العين لأنه يتبين به الشيء، والإنس: لظهورهم، كما قيل الجنّ لاستتارهم وقيل هو إبصار ما يؤنس به. لما وجد منه الإيناس فكان مقطوعا متيقنا، حققه لهم بكلمة إنّ ليوطن أنفسهم. ولما كان الإتيان بالقبس ووجود الهدى مترقبين متوقعين، بنى الأمر فيهما على الرجاء والطمع وقال لَعَلِّي ولم يقطع فيقول: إنى آتِيكُمْ لئلا يعد ما ليس بمستيقن الوفاء به. القبس: النار المقتبسة في رأس عود أو فتيلة أو غيرهما. ومنه قيل: المقبسة، لما يقتبس فيه من سعفة أو نحوها هُدىً أي قوما يهدوننى الطريق أو ينفعوننى بهداهم في أبواب الدين، عن مجاهد وقتادة، وذلك لأنّ أفكار الأبرار مغمورة بالهمة الدينية في جميع أحوالهم لا يشغلهم عنها شاغل. والمعنى: ذوى هدى. أو إذا وجد الهداة فقد وجد الهدى. ومعنى الاستعلاء في عَلَى النَّارِ أنّ أهل النار يستعلون المكان القريب منها، كما قال سيبويه في مررت بزيد: أنه لصوق بمكان يقرب من زيد. أو لأنّ المصطلين بها والمستمتعين بها إذا تكنفوها قياما وقعودا كانوا مشرفين عليها. ومنه قول الأعشى:
وبات على النّار النّدى والمحلّق

ويجوز أن الأعشى أراد نفسه والمحلق، لكل الأول أوقع في المدح. ومعنى كونهما عليها: أنهما على جانبيها ولأن المتدفئ يكون أعلى منها بحيث يمد يده فوقها. وعطف المحلق على الندى دلالة على أنهما متلازمان متقارنان، وبين ذلك بقوله: رضيعي لبان، وهو حال منهما، شبههما بالتوأمين دلالة على غاية التلازم حتى في الرحم بل وقبله.
واللبان: لبن المرأة خاصة، وهو مضاف إلى ثدي أم، وتنوينها للافراد وإضافته له لأنه منه. ويجوز تنوينه.
فثدى: بدل منه. والأسحم: الأسود الداجي المظلم، أي تحالفا كما هو رواية أيضا في ليل مظلم. أو في الرحم المظلم.
وعوض: ظرف مستقبل، نصب بما بعده. لا نتفرق: جواب التحالف، وكى بذلك كله عن شدة التلازم بينه وبين الكرم.